المنتد ي الاسلامى

ماهر دياب الكببجي · الخميس فبراير 09, 2012 10:01 am

"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" (النساء 4 :58)

تعرف الحكومة بأنها النظام الذى يحكم مجموعة من الأفراد تعيش فى وحدة سياسية تسمى الدولة . يستنتج من ذلك أن الحكم هو الوظيفة الوحيدة للحكومة . وتحدد الشرائع السماوية والدساتير الوضعية كيفية الحكم فتتفق جميعها على أن يكون الحكم بالعدل . العدل هو إعطاء كل ذى حق حقه . لذلك فإن تفصيل وظيفة الحكومة يرتبط بتفصيل حقوق الأفراد الخاضعين للحكم والتى يمكن تبويبها لتشمل :

· الحرية وتشمل حرية العقيدة والرأي والتصرفات الشخصية فيما لا يتعارض مع حرية الغير وإجماع غالبية المجتمع وقيمه وأمنه القومي ، وفى الجانب الاقتصادي تشمل الحرية حرية السوق لضمان منافسة حرة نظيفة خالية من الغش بجميع صوره .

· الأمن لغايات حماية النفس والمال والعرض ، وفى الجانب الاقتصادي يشمل الأمن الأمن المادي لضمان كفاية دخل كل فرد للعيش على الأقل فى مستوى مقبول ، فلا حرية أو أمن لجائع أو محروم .

· المساواة تشير إلى عدم التمييز بين أصحاب الحقوق لأي سبب ، وفى الجانب الاقتصادي تشمل المساواة عدالة توزيع الموارد على تشكيلة المنتجات لتحقيق التوازن بين الاستهلاك والتنمية ، وعدالة توزيع الموارد على تشكيلة المنتجات الاستهلاكية لتحقيق الرخاء على المستوى الفردي ، وكذلك عدالة توزيع الموارد جغرافياً على مناطق الدولة .

بناءاً عليه فإن الحكم بالعدل يقتضى قيام الحكومة بمجموعة من الوظائف تتمثل فى :

· الرقابة لتجنب التعدى على الحقوق .

· الأمن ويشمل الأمن الخارجي على المستويات السياسية والدبلوماسية والعسكرية ، والأمن الداخلي على المستوى القومي ، وكذلك الأمن المادي على المستوى الفردي .

· القضاء بدءاً من الادعاء فالتحقيق ثم الفصل فى الدعاوى وانتهاءاً برد الحقوق لأصحابها ومعاقبة المعتدى .

· التخطيط لتوفير مناخات الحرية والأمن والمساواة .

ويلاحظ أن جميعها وظائف من اختصاص الحاكم فلا يجوز للمحكوم القيام بها . ويعنى ذلك أن ممارسة الحكومة لأي نشاط أو وظيفة تتعدى متطلبات الحكم بالعدل يمثل خروجاً على مفهوم الحكومة ، كما يشكل تعدياً على وظائف من اختصاص المحكوم إذ لا يجوز الخلط بين اختصاص الحاكم واختصاص المحكوم تجنباً للفوضى . مثال ذلك تقوم الحكومات بتقديم خدمات تعليمية وهى التى تقوم بمراقبتها فتعمل بذلك حاكما ومحوماً والنتيجة تدنى مستوى الخدمات التعليمية الحكومية عن مستوى الخدمات التعليمية الخاصة . وقد تميزت الاقتصاديات المعاصرة بالتوسع فى ما يقدم على أنه من واجبات الدولة ، فتميزت الرأسمالية بتتنامى خدمات الرعاية الإجتماعية وتجاوزتها الدول الاشتراكية التى تتميز بالملكية العامة لعوامل الإنتاج ، يصحب ذلك تضخم الإنفاق الحكومي وزيادة الفساد فى المال العام وأحياناً زيادة الدين العام . ومع انتشار الديمقراطية التى فرضت حكم الحزب الذى يترجم مصالح ممولى الإنتخابات ، أصبح الحكم بيد الأثرياء فانتهكوا حق المساواة إذ تحول التخطيط من التخطيط لصالح المجتمع إلى التخطيط لصالح فئة مسيطرة .

الحكومة هى نتاج توافق بين أفراد الدولة على اختيار نظام لحماية حقوقهم ، فمن واجبهم أن يدفعوا جميعاً كلفة هذا النظام التى تعرف بالإنفاق الحكومي ، ومن العدل أن يتقاسموا كلهم دون استثناء هذه التكلفة ، فلا يجوز أن ينتفع أحد بالحماية على حساب آخر . أما الأنظمة الاقتصادية القائمة فقد اتجهت إلى تغطية الإنفاق الحكومي من ما يعرف بإيرادات الدولة التى تتمثل أساساً فى إيرادات من استثمار المال العام و متحصلات من الضرائب .

إن تعريف الحكومة كحاكم بالعدل لا يعطي لها الحق فى استثمار المال العام ، فالمال العام ليس ملكاً للحكومة وإنما ملك مشاع لأفراد الدولة ، وكما لا يعطى الحق للحكومة أن تعتبر حصيلة استثمارات المال العام مورداً لها تتصرف فيه كيفما تشاء ، وكذلك لا يعطيها الحق فى ممارسة أنشطة إنتاجية إلا ضمن نطاق ما تفرضه وظيفتها ولا يمكن للقطاع الخاص القيام به لدواعى أمنية . ولكن حماية حقوق أفراد الدولة تقتضى استثمار المال العام . وهذه الحماية تندرج تحت وظيفة الحكومة فى المراقبة فعليها مراقبة إستثمار المال العام من قبل القطاع المصرفى والخاص . إن العدل يقتضى أن تعتبر إيرادات المال العام إيرادات لأفراد الدولة وليس للحكومة ، الأمر الذى يستوجب فصل إيرادات استثمارات المال العام عن ميزانية الدولة وإعادة استثمار هذه الإيرادات لتمويل تنفيذ مشاريع تنموية من قبل القطاع المصرفي والخاص ولتمويل إجراء بحوث علمية غير مربحة ولكنها ضرورية للتنمية والتطوير . وبينما يلاحظ اهتمام الحكومات بالاستثمار المباشر للمال العام لأنه مصدر دخل لها ، فإنه يلاحظ تقصير الحكومات فى مراقبة القطاع المالي الذى يقوم على استثمار المال العام من ودائع مصرفية وأقساط تأمين واشتراكات فى برامج الضمان الاجتماعي والتقاعد وما فى حكمها إذ شهد العالم الكثير من حالات الإفلاس أو التعثر فى مؤسسات هذا القطاع .

إن تعريف الحكومة كحاكم بالعدل لا يعطي لها الحق فى فرض ضرائب أو رسوم أو جبايات تحت أي مسمى بحجة تمويل الإنفاق الحكومي وإعادة توزيع الدخل القومي لصالح الفقراء . العدل يقتضى أن يكون تمويل الانفاق الحكومي من قبل جميع أفراد المجتمع وليس دافعى الضرائب وحدهم . أما إعادة توزيع الدخل ، فالضرائب تعيد توزيع الدخل لصالح الأغنياء ، إذ تحصل الحكومة الضرائب من دافعيها لتغطية نفقاتها ، ولكن معظم الضرائب يستردها دافعوها من المستهلكين فى شكل ارتفاع الأسعار ، فصاحب العمل يحرص على ثبات أو زيادة صافى دخله بعد الضرائب فيحسب كل ما يدفعه من ضرائب على المنتجات أو على دخله أو على دخل العاملين لديه ضمن سعر البيع ، أما العامل فيدفع الضرائب وليس له أن يستردها من أحد . كما أن الضرائب تزيد من أسعار الأصول التى يمتلك الأغنياء معظمها .

إن تعريف الحكومة كحاكم بالعدل يلزم الحكومة بالعمل على توفير الأمن المادي لكل فرد من أفراد المجتمع كى يتسنى له تغطية كلفة معيشته ضمن مستوى معيشي يرتضيه المجتمع ، ولكن التعريف ذاته يحصر عمل الحكومة فى صيانة الحقوق ، الأمر الذى يثير مسألة تفاوت الدخول وما إذا كان الأمن المادي حق ومن الذى يعتدى عليه .

تتعدد أسباب تباين الدخول فى المجتمعات ، ولكن العوامل التى تؤثر على مقدرة الأفراد لتنمية مداخيلهم ، بصرف النظر عن أدائهم فى العمل ، تشمل عوامل طبيعية إضافة إلى عوامل بشرية ؛

· يقصد بالعوامل الطبيعية الاختلاف الطبيعي بين الأفراد نتيجة إختلاف القدرات الخلقية و نمط الحياة ودورة الحياة والبيئة المحيطة . يولد الناس مختلفى القدرات فى الذكاء والإبداع والقوة والشخصية ، والبعض يولد معاقاً . ينشأ كل إنسان فى ظروف مختلفة فقد ينمو طفل فى بيئة فقيرة خطرة ويتعلم فى مدارس فقيرة ويحظى برعاية طبية ضئيلة ، بينما ينعم أطفال الأثرياء بالعيش فى أمان والحصول على مستوى تعليمي ورعاية صحية أفضل ، كما ويتمكن الذين لديهم ثروة من استثمارها لتنمية ثرواتهم . البعض قد يتعرض لحادث تجعله معاقاً ، كما لا يمكن لطفل أو كهل أن يكتسب دخلاً من عمل . يتأثر السلوك الفردي لتنمية الثروة بخصوصيات المجتمعات مثل الحضارة والتقاليد والدين والتمييز بين الجنسين وإختلاف النظرة إلى الأولويات والتمييز العنصري .

· يقصد بالعوامل البشرية التضخم المفتعل إذ يتسبب التضخم فى عدم مساواة متعمد ، فيمكن فئة فى المجتمع من الحصول على مكاسب خاصة على حساب خسارة عامة الناس وجميعهم مستهلكون .

بينما يتسبب التضخم فى ممارسة عملية ظلم إجتماعي ، فإن العوامل الطبيعية لها ما يبررها إذ تعمل على تحقيق التعاون الاجتماعي اللازم لتقدم المجتمعات وبناء الحضارات . إذا كان الناس متساوين تماماً فسيكون لكلٍ منهم نفس الدور فى المجتمع ، فاختلاف الناس ضروري لاستمرارية الحياة بشكلها القائم . لا يمكن بناء سد من قبل مهندسين فقط وإنما يتوجب توفر عمال ، كما لا توجد حاجة للطبيب ما لم يوجد مرضى . بدون تعاون إجتماعي لن يكون هناك أغنياء ، ولكن يترتب على اختلاف القدرات تباين فى مساهمات الأفراد فى بناء المجتمع وبالتالى إختلاف فى السلوك للحصول على الثروة "لا نكلف نفساً إلا وسعها" (المؤمنون 23 : 62) فيكون هناك فقراء وأغنياء . لذلك فإن اختلاف القدرات هي حاجة ومصلحة للأغنياء لضمان استمرار حصولهم على التعاون الاجتماعي المطلوب لتنمية ثرواتهم إضافة للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي اللازم لحمايتهم وثرواتهم .

إن رفع الأجور لمواجهة أعباء المعيشة يتنافى مع كون الأجر عائد الإنتاجية كما أنه يزيد من تكاليف الإنتاج فيتسبب فى ارتفاع معدل التضخم ، أما العدل فيقتضى الإقرار بحق الفقراء ومحدودى الدخل فى الحصول على تعويض عن الاختلاف الطبيعي فى قدراتهم وعن الاستيلاء على ممتلكاتهم عن طريق التضخم "كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم" ( الحشر : 7) . وحيث أن الأغنياء هم المستفيدين فإن عبء التعويض يقع عليهم وليس على الدولة . ويكون واجب الدولة تحصيل قيمة التعويض من المستفيدين . "يسألونك عما ينفقون قل العفو" (البقرة 2 : 219) ورده للمستحقين "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" (الذاريات 51 : 19) . إن تحقيق الأمن المادي يفترض أن تتحدد قيمة التعويض بمقدار عجز الدخل عن تغطية تكاليف المعيشة .

تشمل تكلفة المعيشة مستهلكات الفرد لمعيشته مثل المسكن والملبس والغذاء ، وكذلك الخدمات الخاصة التى لا يمكن للفرد الاستغناء عنها وفى نفس الوقت قد لا يتمكن من تحمل تكاليفها مثل الرعاية الصحية والتعليم ، وأيضاً الخدمات العامة مثل الطرق والجسور والمرافق ، بالإضافة إلى الخدمات الحكومية التى تقدمها الحكومة بوصفها حاكم عادل . تحدد الحكومة بعدل تكاليف المعيشة المعيارية التى تمكن الفرد من العيش فى مستوى معيشي مقبول يرتضيه المجتمع . يقصد بتكاليف الأسرة مجموع التكلفة المعيارية لما يقدر أن يدفعه رب الأسرة للحصول على مستهلكات أسرته ، بالإضافة إلى قيمة اشتراك شهري لتغطية نصيب أسرته من كلفة الخدمات الخاصة والعامة والحكومية "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" (النجم 53 : 39) فلا يجوز تقديم منتج أو خدمة لفرد دون مقابل . يقصد بدخل الأسرة دخل رب الأسرة من جميع مصادر الدخل بالإضافة إلى مساهمة المعالين فى نفقات الأسرة .

يغطى نظام الأمن المادي عجز دخل الأسرة عن تغطية تكاليف الأسرة ، ويتم ذلك بفرض ضريبة الثروة . ضريبة الثروة ضريبة تصاعدية تفرض على الزيادة فى دخل الأسرة على تكاليف الأسرة ، وكذلك على الزيادة فى دخل كلٍ من المعالين على ما يدفع لرب الأسرة مساهمة فى تكاليف الأسرة . خلافاً للضرائب الحالية ، فإن ضريبة الثروة ليست إيراداً للدولة ، وإنما تقوم الحكومة بتحصيلها من دافعيها ودفعها إلى مستحقيها . وفى مقابل الأمن المادي فإنه من الضروري الزام كل قادر بالعمل ضمن مقدرته ووضع الضوابط لمنع التواكل على نظام الأمن المادي .

ماهر الكببجي

الموضوع الأصلي : الحكومة // المصدر : منتدى الازهري // الكاتب: ماهر دياب الكببجي